رحلاته الثلاث إلى القسطنطينية
الرحلة الأولى سنة 1280 هـ : أصيب السلطان عبد العزيز خان بغم شديد لسماعه أكاذيب فندر عن المناظرة، فكتب رسالة عاجلة إلى شريف مكة عبد الله بن عون
للاستفسار من الحجاج الهنود عن قصة المناظرة والثورة سنة 1857م وإعلام الباب العالي بحقيقة الأمر، فأخبره الشريف بأن الشيخ رحمت الله موجود في مكة، فطلبه السلطان كضيف خاص، وودعه والي مكة كضيف ملكي. وعند وصوله إلى الآستانة في رجب سنة 1280هـ الموافق ديسمبر لعام 1863م استقبله السلطان عبد العزيز خان في موكب رسمي، وأنزله بالقصر الهمايوني، وأقام له حفلة كبيرة حضرها الوزراء والعلماء وكبار رجال الدولة، وثم طلب من الشيخ أن يحدثهم عن المناظرة والثورة ودور العلماء فيها والمذابح الوحشية على يد الإنجليز. وكان فندر قد فر من تركيا عندما سمع بوصول الشيخ رحمت الله إلى الآستانة وإكرام السلطان له، ولما اطلع السلطان على الحقيقة، أمر بالقبض على المنصرين ومصادرة كتبهم وإغلاق مراكزهم سدا لباب الفتنة، ثم طلب السلطان من الشيخ في هذه الزيارة تأليف كتاب في الرد على النصرانية فألف كتابه (إظهار الحق). وكان الشيخ رحمت الله يلتقي بالسلطان بعد صلاة العشاء يتبادلان الحديث وكان يحضر اجتماعات المجلس الأعلى لشؤون الدولة مع رئيس الوزراء خير الدين باشا التونسي وشيخ الإسلام أحمد أسعد المدني وكبار رجال الدولة، وقد عين له السلطان راتبا شهريا قدره خمسمائة مجيدي، وعينه عضوا بمجلس الوالي بمكة، وأنعم عليه بالخلعة السلطانية والوسام المجيدي من الدرجة الثانية، تقديرا لجهوده في مقاومة التنصير والاستعمار ثم استأذن السلطان في العودة إلى مكة المكرمة لمواصلة تدريسه في الحرم الشريف فأذن له وودعه بنفسه. أما الرحلة الثانية فكانت سنة 1301هـ : وذلك أنه لما عُين عثمان نوري باشا واليا على الحجاز سنة 1299 هـ وكان رجلا عسكريا قاسيا راودته الشكوك في المدرسة الصولتية ومؤسسها، بسبب وشايات الإنجليز وإقناعهم إياه بأنها حركة تعمل لهدم الخلافة العثمانية، ولما سمع السلطان عبد الحميد الثاني بالتوتر الشديد بين الشيخ والوالي أرسل يطلب حضور الشيخ إلى دار الخلافة وظن عثمان نوري أن الشيخ سيلقى جزاءاً قاسيا، لكنه قوبل بالتكريم منه ومن كبار رجال الدولة، وأنعم عليه السلطان عبد الحميد بالخلعة الملكية الذهبية وبالوسام المجيدي قبل أن يقابله، كما منحه شيخ الإسلام أحمد أسعد المدني (سند رؤوس) من المشيخة الإسلامية وهي وثيقة الشرف والامتياز للعلماء المجاهدين. ولما قابل السلطان اعتذر له السلطان عن تأخر المقابلة بينهما ومنحه لقب (فايا حرمين شريفين) - أي ركن الحرمين الشريفين _ وألبسه عباءة هذا اللقب، كما منحه سيفا من ذهب منقوش عليه العبارات التمجيدية منها (السلاح زينة لمن يجاهد في سبيل الله) وأهداه هدايا كثيرة وقرر له راتبا شهريا مقداره خمسة آلاف قرش. أقام الشيخ في دار الخلافة مدة التقى فيها بالسلطان عدة مرات تبادلا فيها الرأي في الأمور الدينية والسياسية الهامة، وقد اقترح على السلطان أن يمنع دخول الإنجليز إلى عدن خشية تغلغلهم في البلاد الإسلامية، ولما أراد العودة إلى مكة أراد السلطان تقرير هبة مالية سنوية للمدرسة الصولتية لإعانتها على أداء رسالتها، لكن الشيخ اعتذر بكفاية إعانات المحسنين لنفقاتها، فودعه السلطان وداعا رسميا واستقبله أهل مكة وعلى رأسهم أميرها عثمان نوري الذي اعتذر للشيخ عما بدر منه، ودامت المراسلات بينه وبين السلطان عبد الحميد بالعربية والفارسية. أما الأوسمة والألقاب فلم يستعملها الشيخ طيلة حياته زهدا منه وورعا، وترفعا عن الظهور بمظهر يؤثر على مكانته الدينية والعلمية. ولما علم السلطان بأن الشيخ أصيب بضعف في بصره حتى عجز عن القراءة والكتابة، طلبه على عجل للعلاج، فكانت رحلته الثالثة سنة 1304 هـ استجابة لرغبة السلطان رغم المرض وصعوبة السفر، ورافقه في هذه الرحلة تلميذه الأستاذ (عبد الله جي) الذي قيد أحوال الرحلة مشيرا إلى التكريم الذي لقياه وأنهما كانا يفطران مع السلطان ويصليان معه العشاء والتراويح، وأن السلطان دعا خمسة أطباء مع طبيبه الخاص لفحص عيني الشيخ، فقرروا إجراء عملية جراحية بعد شهرين ريثما يخف نزول الماء في عينيه، لكن الشيخ اعتذر عن إجراء العملية لصعوبتها في ذلك الزمان، كما اعتذر عن طلب السلطان الإقامة بجواره، لأنه يريد أن يموت في مكة، فودعه السلطان ووصل الشيخ إلى مكة في ذي القعدة سنة 1305 هـ وبعد شهور من وصوله إليها عمل له أحد أطباء مكة العملية الجراحية ولم تنجح، وكان حفيده محمد سعيد _ المدير الثاني للمدرسة الصولتية - يقرأ له الرسائل الواردة ويكتب له الردود عليها بإملائه رحمهما الله تعالى.
0 التعليقات:
إرسال تعليق